العوامل الاستعمارية والعبودية الحديثة في العالم العربي: تحليل واستراتيجيات المواجهة
لم تكن ظاهرة الاستعمار في التاريخ العربي مجرد غزو عسكري أو سيطرة سياسية العوامل الاستعمارية والعبودية الحديثة في العالم العربي: تحليل واستراتيجيات المواجهة، بل كانت - وما تزال - نظامًا معقدًا يعتمد على تفكيك البنى الداخلية للشعوب، واستنزاف ثرواتها، وإعادة تشكيل وعيها لصالح القوى المهيمنة. ما يلفت النظر اليوم هو أن العوامل التي جعلت المنطقة العربية "قابلة للاستعمار" - وفقًا لتحليل المفكر الجزائري مالك بن نبي - لا تزال فاعلة، بل تتفاقم في ظل التبعية المطلقة للخارج، والمناهج الفكرية والسياسية التي تُعيد إنتاج التخلف.
الأرضية الخصبة للهيمنة: كيف يصنع الداخل مكامن الضعف؟
يشير مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة إلى مفهوم "القابلية للاستعمار"، أي العوامل الذاتية التي تجعل مجتمعًا ما فريسة سهلة للهيمنة الخارجية. هذه العوامل ليست اقتصادية فحسب، بل ثقافية وسياسية: انهيار المشروع الحضاري، وغياب الرؤية الإستراتيجية، والتبعية الفكرية التي تحوّل الدول إلى مستهلكة لمنتجات الآخر المادية والفكرية.
اليوم، نرى تجليات هذا المفهوم في واقع عربي مُفكك، تعتمد دوله على تصدير الموارد الخام، وتستورد كل شيء من السلاح إلى الثقافة، بل وحتى نماذج "الديمقراطية" الجاهزة، التي تُفاقم الانقسامات بدلًا من أن تحلّها. تصريح ترامب الصادم حول "الاستحواذ على غزة" لم يكن مجرد تهوُّرٍ فردي، بل انعكاسًا لقراءة استعمارية عميقة لواقع المنطقة: فالقوى الكبرى تدرك أن الأنظمة العربية، بفسادها وتشرذمها، لن تقاوم إلا بشكل رمزي، وأن الشعوب مُثقلَة بأزمات المعيشة والهوية، مما يجعل أي موقف "وحدوي" مجرد شعاراتٍ عاطفية.
وهذا يفسر لماذا تتعرض دول عربية لانتهاكات صارخة، بينما تتجنب القوى نفسها التصريح ضد دول أخرى تمتلك مشروعًا وطنيًا متماسكًا وقدرةً على الردع.
العبودية الحديثة: وجه آخر للتبعية
العبودية اليوم لم تعد تقتصر على الاسترقاق المباشر، بل تحولت إلى أشكال أكثر تعقيدًا:
- عبودية الاقتصاد الأحادي الذي يربط الدول العربية بتقلبات أسواق النفط.
- عبودية "الثقافة الاستهلاكية" التي تجعل الشباب أسرى لقيمٍ تتعارض مع هويتهم.
- عبودية التبعية الأمنية التي تدفع الأنظمة إلى تسليم قرارها للخارج مقابل البقاء في السلطة.
هذا النمط من التبعية يُحوّل الثروات العربية إلى دماء تُضخّ في شرايين الاقتصادات الغربية، بينما تتراكم الديون والفقر في الداخل.
استراتيجيات المواجهة: من "القابلية للاستعمار" إلى "شروط النهضة"
يقدم مالك بن نبي حلولًا استراتيجيةً في مشروعه الفكري، أهمها بناء "المجتمع الفاعل" القادر على إنتاج أفكاره وتقنياته وقيمه بشكل مستقل. وهذا يتطلب:
- إصلاح النظام التربوي: بتحرير التعليم من التلقين، وربطه باحتياجات الأمة الحضارية.
- توحيد الجهد الاقتصادي: عبر مشاريع تكاملية عربية بدلًا من المنافسة المدمرة.
- الثورة الثقافية: بإعادة إنتاج خطابٍ عربيٍ يعيد تعريف الذات بعيدًا عن ثنائية "التبعية" أو "العداء" للآخر.
- الديمقراطية الجوهرية: ليست طقوسًا انتخابية، بل مشاركة حقيقية في صنع القرار.
الخلاصة: الاستعمار يصنعه الضعفاء، وتلغيه الأقوياء
إن تحرير الأرض من الاحتلال يبدأ بتحرير العقل من التبعية، والإرادة من الاستسلام. الدول الكبرى لا تحتل إلا من يُسهّل عليها الاحتلال. ولعلّ الدرس الأهم من تاريخ بن نبي هو أن النهضة ليست عملية تقنية، بل مشروعٌ وجودي يُعيد للإنسان العربي كرامته كفاعل في التاريخ، لا كرقمٍ في معادلة الاستعمار.
0 تعليقات